فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

73- سورة المزمل:
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة القلم.
عدد آياتها: عشرون آية.
عدد كلماتها: مائتان وخمس وثمانون كلمة..
عدد حروفها: ثمانائة وستة وثلاثون حرفا..
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة (الجن) بهذا العرض الذي يكشف عن مقام رسل اللّه عند ربهم، وأنهم وحدهم من بين البشر، هم الذين اختارهم لرسالته إلى عباده، ولما يطلعهم عليه من الغيب المتصل برسالاتهم، وببعض الأحداث التي تقع لهم على طريق هذه الرسالات..
والنبي صلوات اللّه وسلامه عليه، واحد من هؤلاء الرسل الكرام، الذين اختارهم اللّه سبحانه لتبليغ رسالاته إلى الناس، ولما يوحى إليهم به من آياته التي لا يعلمها إلا هو..
فناسب ذلك أن تجيء سورة (المزمل) تالية سورة (الجن) وفيها هذا النداء الكريم من اللّه سبحانه وتعالى إلى رسوله، وقد آذنه بأنه قد اختير من اللّه سبحانه ليكون رسولا، وليتلقّى آيات اللّه الموحى بها إليه من ربه، وأنها من الغيب الذي سيطلعه اللّه عليه..
التفسير:
قوله تعالى: {يا أيها المزمل}.
النداء هو من الحق جلّ وعلا، إلى رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه، وكان ذلك في أول الدعوة، حيث تلقى الرسول الكريم أمر ربه بأنه رسول اللّه، وذلك في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق}.
وقد استقبل الرسول هذه الدعوة، استقبال الإنسان لأمر غريب يقع له، مما لم تألفه الحياة، ومما لم يقع له أو لغيره المعاصرين له.، فوقع في نفسه شيء من الخوف، والفزع لهذا الحدث، ولما له من عواقب لا يدرى ما يأتيه منها.. ويروى في هذا أن النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، كان في أول أيام رسالته كلما عرض له جبريل، وناداه من قريب أو بعيد فزع، وكرب وعاد إلى أهله يرجف فؤاده، ويقول «زمّلونى، دثرونى.»
و{المزّمل}: أصله المتزمّل، وهو المتلفف في يرد، أو نحوه..
و{المزّمل}: الحامل الثقال من الأمور، ومنه: الزّاملة، وهى الراحلة التي تحمل الزاد والمتاع، ونحوه..
ونداء النبي الكريم، بهذه الصفة التي كان عليها.. وهى المزمل.. هو غاية اللطف، والتكريم والإحسان، من اللّه سبحانه وتعالى.. حيث لا يكون هذا النوع من الخطاب إلا بين متحابين متصافيين، قد زالت حواجز الكلفة بينهما.. وهذا جائز من اللّه سبحانه وتعالى، لأنه هو الملك للأمر كله، يدنى من يشاء ويبعد من يشاء، ويخاطب أحبابه وأولياءه، كما يخاطب الحبيب حبيبه، والخليل خليله.. أما النبىّ، والملائكة، وغيرهم من عباد اللّه المقربين فإنه لا يجوز لهم أن يخاطبوا اللّه سبحانه إلا من مقام العبودية المطلقة لجلال اللّه وعظمته..
{يا أيها المزمل}!! كم وجد الرسول الكريم من سعادة، وغبطة، ورضا.. بهذا الوصف الذي أصبح علما هو آثر الأسماء عنده، وأحب، الصفات إليه؟ وهذا يعنى أن جميع أحوال النبىّ، هي غير أحوال الناس، وأن كلّ حال منها هي علم على النبي وحده، حتى ما كان منها في ظاهره مما لا يتمدّح به، هي بالنسبة إليه صفات كمال لا يتصف بها غيره.
وللرسول الكريم وصف وصف به الإمام عليا- كرم اللّه وجهه- حين رآه نائما في المسجد وقد علا جبينه بعض التراب، وكان مغاضبا السيدة فاطمة رضى اللّه عنها، فقال له الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه: «قم يا أبا تراب» يقول الإمام علىّ: فكان هذا الوصف هو أحبّ ما أنادى به!! وقوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا}.
هذا هو المنادى به النبي من قبل اللّه سبحانه وتعالى، بعد أن أوقظ من نومه بهذه اللمسة الرفيقة الحانية، من يد اللطف والرحمة، من ربّ لطيف رحيم.. {يا أيها المزمل} وفى هذه الدعوة، انتقال بالنبيّ الكريم من حال المزمل، والنوم، إلى اليقظة الكاملة، والتشمر للعمل، والقيام له.. {قم الليل إلا قليلا}.
والمراد بقيام الليل، هو اليقظة فيه، يقظة كاملة، واعية عاملة، حتى لكأنه في حال قيام دائم، وإن كان جالسا..
قوله تعالى: {نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} نصفه، بدل من {قليلا} في قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا} وهو بيان لمقدار قيام الليل إلا قليلا منه.. فنصف الليل، إذا قامه النبي، يعدّ منه قياما لليل، إلا قليلا منه، وأقل قليلا من نصف الليل، بعد كذلك من النبي قياما لليل إلا قليلا منه، وكذلك إذا هو زاد في قيامه على نصف الليل..
وهذا يعنى أن أمر النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- بقيام الليل إلا قليلا، هو أمر قائم على اليسر، حسب أحوال النبي، وعلى قدر استعداده في كل حال من أحواله.. ففى ليلة، يقوم الليل كله إلا قليلا، وفى ليلة أخرى، يقوم نصف الليل، وفى ثالثة، يقوم أقل من نصف الليل، وفى رابعة يقوم اكثر من نصفه.. وفى كل هذا، هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أدى غاية المطلوب منه، وهو قيام الليل إلا قليلا منه..
وقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا}- معطوف على قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا}.
إذ ليس المطلوب هو قيام الليل في ذاته، وإنما المراد هو الذي يصحب هذا القيام، من ترتيل القرآن ترتيلا.. فالواو هنا بمعنى المعية والمصاحبة.. ويجوز أن تكون واو الحال، والجملة بعدها حالية، أي قم الليل مرتلا القرآن ترتيلا.. وترتيل القرآن، هو قراءته في تمهل وتتابع، بحيث تتابع الحروف والكلمات، فيأخذ كل حرف مكانه على الفم من كل كلمة، كما تأخذ الكلمة مكانها من كل آية، حتى ينتظم منها جميعها موكب متحرك في نظام أشبه بنظام حبات الدر في عقدها.. وهكذا كانت قراءة رسول اللّه للقرآن.. عن أم سلمة- رضى اللّه عنها- قالت: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. يقطّع قراءته آية آية» وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان يمدّ صوته مدّا» وعن ابن عمر رضى اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وأرق، ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر تقرؤها» ولفظ الترتيل، يحتمل هذه المعاني كلها.. وهو من ترتّل الأسنان، إذا استوت وحسن نظامها، ويقال ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها..
قوله تعالى: {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا}- هو بيان للسبب الذي من أجله دعى النبي إلى قيام الليل، وإلى نزع ثوب الدّعة والسكون.. إنه صلوات اللّه وسلامه عليه- سيواجه- بعد اصطفائه المرسالة- أمرا عظيما، وإنه سيكلف أداء مهمة شاقة، تحتاج إلى أن يبذل لها كل جهده، وأن يقوم عليها في كل لحظة من حياته، ليلا ونهارا.. فهذا القول الذي سيلقى عليه، وهو القرآن الكريم، هو قول ثقيل بما يحمل من تكاليف، هي عبء ثقيل عند كثير من الناس، كما أنها حمل ثقيل على النبي في حملها إلى الناس، ودعوتهم إليها..
إن عهد النوم بالليل قد انتهى! فليوطّن النبي التي نفسه منذ الآن على الجهاد، وحمل هذا العبء، وليأخذ للموقف عدته، وإلّا ضعف عن حمل الرسالة، وأداء أمانة تبليغها، وقد علم أن إخوانه من الرسل، قد أبلغوا رسالات ربهم، وما كان له أن يقصر عنهم، وهو خاتمهم، وسيدهم.
وهذا التنبيه من اللّه سبحانه لنبيه الكريم، بما سيلقاه على طريق رسالته، من صعاب، وما يحمله في سبيلها من أعباء- هو الذي يهيئ النبي جسميّا ونفسيّا للمهمة الخطيرة التي نيطت به، وألقيت عليه.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1)}
افتتاح الكلام بالنداء إذا كان المخاطب واحدا ولم يكن بعيدا يدل على الاعتناء بما سيلقى إلى المخاطب من كلام.
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلاّ لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو {يا أيها النبي} [الأنفال: 65]، أو تلطف وتقرب نحو: يا بُنيِّ ويا أبتتِ، أو قصد تهكم نحو: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه «قُم أبا تراب» وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق «قم يا نوْمانُ»، وقوله لعبْد الرحمان بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملا هِرّة صغيرة في كمه «يا أبا هُريرة».
فنداء النبي بـ {يا أيها المزمل} نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1].
و{المزمل}: اسم فاعل من تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، أو مريد النوم وهو مثل التدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من معنى التلفف، والتدثُر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ.
وأصل التزمل مشتق من الزّمْل بفتح فسكون وهو الإِخفاء ولا يعرف ل (تزمّل) فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس، فمنه التزمل ومنه التعمّم والتأزّر والتقمّص، وربما صاغوا له صيغة الافتعال مثل: ارتدى وائتزر.
وأصل {المزمل}: المتزمل، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا لتقاربهما.
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «زمِّلُوني زمِّلُوني» حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من (صحيح البخاري) وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذٍ، وعليه فهو حقيقة.
وقيل: هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال: لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سمُّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه (أي صِفوه وصفا تتفق عليه الناس) فقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، فصدر المشركون على وصفه بـ (ساحر) فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر، فأتاه جبريل فقال: {يا أيها المزمل} {يا أيها المدثر} [المدثر: 1].
وسيأتي في سورة المدثر أن سبب نزولها رؤيتُه الملك جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: «دثروني»، فيتعين أن سبب ندائه بـ {يا أيها المزمل} كان عند قوله: «زمِّلِوني»، فذلك عندما اغتمّ من وصف المشركين إياه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه بـ {يا أيها المدثر} في سورة المدثر.
وقيل: هو تزمُّل للاستعداد للصلاة فنودي {يا أيها المزمل قم اللّيل إلاّ قليلا} وهذا مروي عن قتادة.
وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة.
ومحملها على أن التزمُّل حقيقة، وقال عكرمة: معناه زُمِّلْت هذا الأمر فقم به، يريد أمر النبوءة فيكون قوله: {الليل إلاّ قليلا} مع قوله: {إن لك في النهار سبحا طويلا} [المزمل: 7] تحريضا على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلاّ قليلا من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه.
ومحمل التزمل عنده على المجاز.
فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالا على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إنه مجنون.
أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحِراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه {يا أيها المدثر}.
فنداء النبي بوصف {المزمل} باعتبار حالته وقت ندائه وليس المزمل معدودا من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال السهيلي: ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عدّه من أسمائه.
وفعل {قم} مُنزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله: {قم فأنذر} [المدثر: 2] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك.
و{الليل}: زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر.
وانتصب {الليل} على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإِنسان.
وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما.
وأمْر الرسول بقيام الليل أمْر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزول هذه السورة، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى قوله: {وطائفة من الذين معك} [المزمل: 20] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري: «فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم قال: {اقرأ باسم ربّك} [العلق: 1]» الحديث، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة.
وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيما لشأنه بكثرة الإِقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى: {ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا أي زيادة قرب لك} وقد تقدم في سورة [الإسراء: 79].
فكان هذا حكما خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن واجبا على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس.
وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرّهم على ذلك فكانوا يرونه لِزاما عليهم، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {تتجافى جنوبُهم عن المضاجع} [السجدة: 16]، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} [المزمل: 20] الآية، قالت عائشة: «إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه»، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين.
وتقرر أنه مندوب فيه.
واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه.
وقوله: {إلاّ قليلا} استثناء من {الليل} أي إلاّ قليلا منه، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها.
و{نصفه} بدل من {قليلا} بدلا مطابقا وهو تبيين لإِجمال {قليلا} فجعل القليل هنا النصف أو أقلّ منه بقليل.
وفائدة هذا الإِجمال الإِيماء إلى أن الأوْلى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل وأن جعله نصف الليل رحمة ورخصة للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل لذلك تعقيبُه بقوله: {أو انقص منه قليلا} أي انقص من النصف قليلا، فيكون زمن قيام الليل أقلّ من نصفه، وهو حينئذٍ قليل فهو رخصة في الرخصة.
وقال: {أو زد عليه} وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقيد {أو زد عليه} بمثل ما قيد به {أو انقص منه} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك: إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: أفلا أكونُ عبدا شكورا».
والتخيير المستفاد من حرف {أو} منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن لذلك ارتباطا بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم.
وبعد فذلك توسيع على النبي صلى الله عليه وسلم لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب.
وجعل ابن عطية {الليل} اسم جنس يصدق على جميع الليالي، وأن المعنى: إلاّ قليلا من الليالي، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها، أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزئياتها لا باعتبار الأجزاء، ثم قال: {نصفه} إلى آخره.
وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقتُ النوم عادة فأُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإِقبال على مناجاة الله: ولأن الليل وقت سكون الأصوات واشتغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعدادا لتلقي الفيض الرباني.
يجوز أن يكون متعلقا بقيام الليل، أي رتل قراءتك في القيام.
ويجوز أن يكون أمرا مستقلا بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك.
وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاث سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السورة مكي، وفي أن هذه السورة من أوائل السور، وهذا مما أشعر به قوله: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5] أي سنوحي إليك قرآنا.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين.
والترتيل: جعل الشيء مرتّلا، أي مفرقا، وأصله من قولهم: ثغْر مرتّل، وهو المفلج الأسنان، أي المفرق بين أسنانه تفرقا قليلا بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة.
وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإِشباع.
ووصفتْ عائشة الترتيل فقالت: «لو أراد السامع أن يعُد حروفه لعدها لا كسرْدِكم هذا».
وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلقُ بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيه كي لا يسبق لفظُ اللسان عمل الفهم.
قال قائل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله: «هذّا كهذّ الشعر» لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر مِيزان بحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع.
والهذُّ إسراع القطع.
وأكد هذا الأمر بالمفعول المطلق لإِفادة تحقيق صفة الترتيل.
وقرأ الجمهور {أو انقص} بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل، حركوا الواو بضمّة لمناسبة ضمة قاف {انقص} بعدها.
وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
ووقع في قوله تعالى: {أو زِدْ عليه ورتل القرآن} إذا (شبعت) فتحة نون القرآن محسِّن الاتِّزان بأن يكون مصراعا من بحر الكامل أحذّ دخله الإِضمار مرتين.
{إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا (5)}
تعليل للأمر بقيام الليل وقع اعتراضا بين جملة {قم الليل} [المزمل: 2] وجملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطْأ} [المزمل: 6]، وهو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئةُ نفس النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل شدة الوحي، وفي هذا إيماء إلى أن الله يسّر عليه ذلك كما قال تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17]، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {قم الليل إلاّ قليلا} [المزمل: 2] فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن فلما قال له: {ورتل القرءان ترتيلا} [المزمل: 4] أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن.
والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه: إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملك.
وحقيقة الإِلقاء: رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيء لقى، أي مطروح، استعير الإِلقاء للإِبلاغ دفعة على غير ترقب.
والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيرا على الرسول الأمّي تنوء الطاقة عن تلقّيه.
وأشعر قوله: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله قبله: {إنا سنلقي عليك} وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه.
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربّد له جِلده» (أي تغير بمثل القشعريرة) وقالت عائشة: «رأتُهُ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفضُّ عرقا».
ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه.
قال الفراء: ثقيلا ليس بالكلام السفساف.
وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإِحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه.
وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيد قربه واستمراره، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجئ. اهـ.